مقالات تهمك

سيدنا يوسف.. درس في علم إدارة

بقلم – أحمد صباح السلوم *

تذخر قصة سيدنا يوسف عليه السلام بالعبر والعظات الثرية وخاصة في النواحي الدينية والأخلاقيات الرفيعة لنبي الله يوسف، وهو من أكرم خلق الله نسبا إذ يمتد نسبه الكريم بشكل مباشر ومتوال إلى 3 أنبياء في سابقة لم تتكرر على حد علمنا بين البشر، فهو يوسف ابن نبي الله يعقوب ابن نبي الله إسحاق ابن أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليهم جميعا وعلى نبينا الصلاة والسلام، والقصة هي أحسن القصص بنص القرآن الكريم في قوله تعالى “نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن”.. ورغم التركيز الكبير من قبل المفسرين على النواحي الأخلاقية والعقائدية في هذه السورة، وتركيز الناس على جمال سيدنا يوسف وتفاصيل القصة المشوقة للقراءة بينه وبين اخوته تارة، وبينه وبين امرأة العزيز تارة أخرى، فإن قليل من العلماء قد التفت إلى “النواحي الاقتصادية” في هذه السورة الجليلة، وكيف حل هذا النبي الكريم أزمة اقتصادية كبيرة استمرت 7 سنين متواصلة في بلد كانت من أغنى بلدان العالم وأوفرها نصيبا من المزروعات والغذاء في حينها وهي مصر.
كيفية إدارة الأزمة؟ وكيفية استغلال الموارد بالشكل الأمثل؟ هو درس آخر – قبل أن يؤسسوا لعلوم الإدارة والاقتصاد – نتعلمه من هذه السورة التي لا ينضب معينها أبدا من العظات والعبر الجليلة، فهي بحق “أحسن القصص” كما ذكر المولى سبحانه وتعالى.. فعندما سئل سيدنا يوسف عن تفسير الحلم، لم يقدم تفسيرا فقط بل قدم حلا عمليا متكاملا لإدارة الأزمة دون أن يطلب أي موارد إضافية على الإطلاق، بنفس الموارد المتاحة كان الحل، (( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ(49)).
وكم كان تفسير سيدنا يوسف لهذه الرؤيا دقيقاً ومحسوباً من الناحية الاقتصادية البحتة؛ حيث كانت البقرة في الأساطير القديمة مظهر من مظاهر النعمة والخير.. لكن الاختلاف كان في الإدارة المثلى للموارد الأساسية المتاحة حينها وهي زراعة القمح المحصول الرئيسي لغذاء عموم الشعب، فكانت رؤيته تشمل تكثيف الزراعة بالاستغلال الأمثل للمطر في السنوات السبع الأولى، ثم تخزين المحصول في سنابله (حتى لا يفسد) للاستفادة منه في سنوات القحط والجفاف السبع.. وهي مهام تقوم بها حاليا 3 أو 4 وزارات ربما في الدول الزراعية تحت مسميات التخطيط والزراعة والتموين والاقتصاد !!
نقطة مهمة أخرى يجب الإشارة إليها هنا، وهي أن سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ كان أول من وضع قواعد الادخار الحكومي الموثق على مر التاريخ، وأول من أشار إلى الدورات الاقتصادية من حيث الرواج والكساد، فيقيس كثير من المنظرين وعلماء الاقتصاد حاليا هذه الدورات بمدة 7 سنوات كعمر تقديري متوقع للدورة الواحدة !!
قاعدة أخرى يعلمنا إياها النبي الصديق وهي طلب المسؤولية إذا كنت عند قدر المسئولية، وهناك فارق بين ذلك وبين من يطلبونها طمعا أو طمحا أو وجاهة، وما أكثرهم في هذا الزمن.
ولم يقدم نبي الله رؤيته لحل الأزمة الاقتصادية القادمة، بل طلب أن يتولى المسئولية عن إدارتها دون أن يحدد أجرا، والطلب مسبب بمؤهلات العلم والأمانة، قال ”اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم”، ولم يطلب يوسف ـ عليه السلام ـ هذا الطلب إلا بعد أن علم يقيناً أن الملك سيجعله من خاصته وأهل مشورته بعد أن تيقن من براءته وأخلاقه ثم علمه ونبوغه ((وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ)).
لا ننس هنا إلى أن نشير للمستين كريمتين لهذا النبي الخلوق، فعندما أتوه للفتوى التي حيرت الملك وأرقت منامه ويومه “لم يشترط” النبي على رسل الملك شيئا.. قالوا أفتنا، فافتاهم فورا كما ورد في السورة «يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا »، (يوسف 46- 47).
لكن عندما أراد الملك أن يخرجه من السجن ليستفيد بعلمه وإدارته وخبرته، هنا “اشترط” نبي الله أن تظهر براءته على الملأ جميعا قبل أن يقبل عفو الملك، وهنا تظهر عزة وكرامة النبي والعالم والصديق، ((وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ۚ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ۚ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)).
بالطبع القصة مليئة بالعظات الجميلة، لكنني أردت أن ألفت الانتباه إلى الجانب الاقتصادي منها، لعل يكون فيه فائدة للقارئ الكريم.

* رئيس جمعية البحرين لتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى