مقالات تهمك

تجربة سنغافورة .. من دولة معدومة الموارد إلى “نمر آسيوي”

بقلم – أحمد صباح السلوم

في الظروف الاقتصادية الاستثنائية يبحث الجميع عن حلول للخروج من الأزمات، أحيانا تكون الحلول التقليدية وفي أحيان أخرى يجب أن تكون غير تقليدية للخروج بنتائج إيجابية وفعالة، تتشابه ظروف البحرين الجغرافية من حيث المساحة وطبيعة الأرض، والاقتصادية من حيث الموارد وعدد السكان مع اثنين من دول “النمور الآسيوية” هما سنغافورة وهونج وكونج، واعتقد إن إلقاء الضوء على ملامح التجربة الاقتصادية في كلا منهما ربما يساعد عدد كبير من صناع القرار وحتى القراء على استلهام أفكار جديدة ربما تكون في المستقبل مرشدا لهم في طريق إيجاد الحلول الاستثنائية والمشروعات المتفردة خدمة للاقتصاد الوطني.

تبلغ مساحة سنغافورة قرابة 700 كم مربع، وخُمس تلك المساحة لم تكن موجودة عند التأسيس، بل تم ردم المياه لتوسيع مساحتها، لاحظ هنا الشبه مع ما تشهده البحرين حاليا وسابقا من عمليات تمدد ودفان أنتجت أحياء لم تكن موجود بالكامل على الخريطة البحرينية قبل عقود قلائل مثل الجفير وأمواج وديار المحرق والسيف وغيرها، لكن تجربة سنغافورة أثبتت أن المساحة ليست عاملاً هامًا فى نهضة الدول، حيث نجحت في أقل من أربعة عقود بدءًا من الستينيات وحتى مطلع الألفية الثالثة في تحقيق قفزة تنموية شاملة.

ويبلغ عدد سكان سنغافورة نحو 5.5 مليون نسمة، لكنها شهدت في غضون 50 عاما تحولاً كبيرًا من بلد فقير يبلغ متوسط دخل الفرد فيه قرابة الـ500 دولار، لبلد متقدم أغلب شعبه متعلم ويبلغ متوسط الدخل فيه الآن نحو 65 ألف دولار وفق آخر إحصائيات 2016، وجاء ترتيبها في المرتبة الثالثة عالميا بعد قطر ولوكسمبورج، وقبل دول عملاقة اقتصاديا مثل الولايات المتحدة وسويسرا وألمانيا والنرويج وأستراليا وكندا وجميع دول الخليج وأوربا!!، فعندما يزيد دخل الفرد 130 ضعفًا فى غضون 50 سنة، فهذا إنجاز يستحق الدراسة عن كثب لاستنباط مواضع القوة الحقيقية لهذه التجربة وكيفية الاستفادة منها.. علما بأن سنغافورة كدولة تندرج ضمن الدول الفقيرة في الموارد الطبيعة (بترول، معادن).

السؤال هنا كيف تحولت هذه الدولة الصغيرة المساحة، الضئيلة الموارد إلى نمر آسيوي ذو مخالب اقتصادية حادة ؟

في كتاب رئيس وزراءها الشهير (لي كوان يو)‏ – من العالم الثالث إلى الأول “قصة سنغافورة”– يحكي كيف واجه الظروف الاقتصادية الصعبة لبلده بعد جلاء الاحتلال البريطاني، وكيف استطاعت سنغافورة أن تضع نفسها على الخريطة كمركز مالي ولوجيستي عالمي، واستطاعت التركيز على الصناعات التكنولوجية، مما أدى لزيادة إنتاجية ودخل الفرد بشكل كبير لتصنف ضمن النمور الآسيوية الأربعة بجانب كوريا الجنوبية، وتايوان وهونج كونج، حيث 90% من نمو الاقتصاد العالمي يحدث في قارة آسيا.

ويقول (لي كوان يو)‏ البداية كانت مع قطاع السياحة في مطلع الستينيات حيث كان هذا هو الخيار الأول أمام صانعي التاريخ في سنغافورة لإحداث طفرة في معدلات النمو والدخل، وفرت السياحة فرص عمل ليست بالقليلة، إلا أنها كانت غير كافية بالمرة لابتلاع حجم البطالة المرتفع، خاصة مع انسحاب القوات البريطانية التي كانت توظف ما بين (40 إلى 50) ألف عامل محلي، رغم نجاح العديد من الإصلاحات الإدارية والمالية ومحاربة الفساد، وتدارك العجز المالي للحكومة، إلا أن هذه الجهود كانت غير كافية، فكان الخيار الثاني هو قطاع الصناعة، إذ تم إنشاء المصانع والتركيز على الصناعة التحويلية في البداية وتأمين احتياجاتها من الطاقة بواسطة أربعة مفاعلات كهروحرارية يصل إنتاجها إلى حوالي 25 مليار كيلو واط، وقد أقنع “لي كوان” البريطانيين قبل رحيلهم بعدم تدمير أحواض سفنهم بغرض تحويلها للاستخدام المدني.

وفى هذه الأثناء ضاعفت سنغافورة من جهودها وقامت بتحسين بيئة العمل وأممت شركات القطاع الخاص التي عانت من نقص في رأس المال أو الخبرة مثل بنك سنغافورة وخطوط الطيران، ثم عملت على فتح أسواق جديدة وإعادة هيكلة منظومة الاقتصاد بأكملها، لاسيما بعد ظهور أسواق تجارية ذات تكلفة أقل لدول نامية مجاورة، وقد كانت أولى بوادر النجاح لهذه الخطة دخول شركة تكساس انسترومنت في العام 1968 لتصنيع الترانزستور.

ولتعزيز القطاع الصناعي تم تأسيس مجلس التنمية الاقتصادي في الستينيات ساهم مباشرة في بناء اقتصاد حديث ومتطور عن طريق إقامة صناعات وطنية مملوكة للدولة، ويخلو المجلس من أي توجيه أو سيطرة حكومية، فهو مكون من رجال الأعمال والخبراء ذوي الرؤية، مما ترتب عليه بالتبعية اتخاذ قرارات تنموية بناء على مدى جدواها الاقتصادية، ورؤاها بعيدة المدى.

إلا أنه بعد سنوات من التجربة قرر (لي كوان) وحكومته أن أفضل وسيلة لتعزيز الاقتصاد بجانب كل ما سبق من جهود هي جذب استثمارات الشركات المتعددة الجنسيات، لذا كان المسلك الثالث والمكمل للخطوات السابقة.

وللمضي في هذا الاتجاه كان لابد من تدعيم بنية تحتية تنتمي للعالم الأول وتستوعب حجم الاستثمارات المرجو اجتذابها في أوائل الثمانينيات. وبالفعل، تمكنت الدولة من إقناع الأمريكيين واليابانيين والأوروبيين من تأسيس قاعدة للأعمال بالبلاد في منتصف الثمانينيات، فتحولت سنغافورة إلى واحد من أكبر مصدري الإلكترونيات في العالم، خاصة مع إصرارها على دخول القرن الجديد بصناعات تكنولوجية متطورة تغنيها عن الاعتماد على الصناعات التقليدية التي تعاني منافسة شديدة من قبل الدول ذات الأجور المنخفضة نسبيًا كالصين وباقي دول جنوب شرق آسيا.

لذلك لجأت إلى رفع كلفة العمالة الأجنبية في الصناعات القائمة على الأجور المنخفضة لإجبارها على التحول نحو الصناعات ذات القيمة المضافة العالية، بيد أن هذه السياسات لم تثمر عن نتائج فعلية إلا في نهاية الثمانينيات، أي بعد عشرين عامًا على الإصلاح الاقتصادي والتعليمي، حيث تعد أحد كبار مصدري التكنولوجيا في العالم مثل أجهزة الكمبيوتر ومستلزماتها.

أما الخطوة الأخيرة في إرساء هذه الجهود التنموية فكانت دعم القطاع الخدمي متمثلاً في إنشاء قطاع مالي قوي يستوعب كافة التطورات الداخلية وحجم التعاملات البنكية والمصرفية لتلك الاستثمارات الأجنبية الجديدة.

وارتفعت نسبة مساهمة القطاع المالي ليصل إلى 27% من دخلها القومي، وأصبح بها أكثر من 80 مصرفًا تجاريًا، ونحو 700 مؤسسة مالية أجنبية تتخذ سنغافورة مقرًا لها بالإضافة إلى بورصة مزدهرة لتبادل العملات الآسيوية وبفوائد تشجيعية، مما أسهم في ديناميكية الصناعة المالية في سنغافورة.

* رئيس جمعية البحرين لتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى