مقالات تهمك

ثقافة ترشيد الاستهلاك .. وجذور ضريبة القيمة المضافة (2)

بقلم – أحمد صباح السلوم*

تناولنا في المقال السابق أصل ضريبة “القيمة المضافة وأسباب “اختراعها” أو تقنينها وفرضها في دول أوروبا، وذكرنا أن السبب الرئيسي لفرضها كان من باب دعم أو نشر “ثقافة ترشيد الاستهلاك”، بحيث تُفرض على بعض السلع والخدمات التي يتم بيعها، وأحيانا ما تفرض في ‏كل مرحلة من مراحل عملية الإنتاج، وبالتالي فإن خفض الاستهلاك ‏وترشيده سيتولد عنه توفير كبير بالنسبة للمستهلك، بتجنب دفع الضريبة نفسها، ‏وخاصة أنها كانت تفرض في البدايات على الطبقات الثرية في المجتمعات ‏الأوروبية وخاصة فيما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وطبقت ‏بالتدرج في عدد كبير من الدول، وكان الهدف الرئيسي منها هو توفير ‏حصيلة من أموال للدولة للإنفاق على الفئات غير القادرة في أعقاب ‏الحرب على حساب المقتدرين الذين يشترون السلع “المرفهة” وغير ‏الضرورية، وهو ما يطلق عليه اصطلاحا “السلع الكمالية”.. وتقوم ‏الشركات بتحديد هذه الضريبة واحتسابها وفقا للقانون، وتتولى تحصيلها ‏لصالح الحكومة مع فواتير الدفع‎.‎

شاءت الصدفة أن يتم فتح النقاش حول الرسوم والضرائب الجديدة في مجلس سمو رئيس الوزراء الذي تشرفت بحضوره، وكعادة سموه في الإلمام بالقضايا الاقتصادية واهتمامه الجلي بالأحداث والملفات التجارية المهمة كان لديه “شغف” للاستماع إلى وجهات نظر بعض التجار الحضور في المجلس عن هذه القضايا، بالطبع هناك من اعترض وهناك من تحفظ، وكان رأيي الذي ذكرته لسمو رئيس الوزراء أنها ربما تتكون ذات فائدة كبيرة للناس وتدعم ثقافة “ترشيد الاستهلاك” التي سبق وبينتها في المقال، هذا بخلاف أنها ستكون دعم كبير للحكومة في معالجة قصور الميزانية.. ليس بالضرورة أن تكون كل ضريبة مذمومة، بل ربما هناك إجراءت تحتمها الضرورة يكون لها مردود إيجابي.

وقد دعمت حديثي بنموذج شراء الأغذية واستخدام الكهرباء والوقود في البحرين، وقولت أن السلع المدعمة غالبا ما يسيء الناس استخدامها لرخص سعرها، فيفرطوا في الاستهلاك ويزيدوا الكميات بداعي أو بدون، غير مستشعرين قيمة السلع الأساسية والفارق الكبير الذي تضعه الحكومة من ميزانيتها لسد فروق الأسعار، مثلما كان يحدث في اللحوم وفي البنزين وغير ذلك، ويستطيع المتابع حاليا أن يلحظ فرقا كبيرا في كميات الاستهلاك لنفس الفرد أو العائلة ما قبل الدعم وبعده !!

هذا للأسف جبلنا عليه في الدول العربية بشكل عام حتى بات جزء من ثقافتنا “السلبية” التي نتمنى أن تتغير.

وقد استرعى انتباهي النموذج الذي ذكره صاحب السمو الملكي رئيس الوزراء معبرا عن “رؤية” سموه الخاصة في حل المشكلات الاقتصادية التي تواجه الوطن والمجتمع، وقال أنه عندما زادت نسبة السيارات في بريطانيا في فترة من الفترات، لم تلجأ الحكومة البريطانية لزيادة مساحة الشوارع ومد الجسور وحفر الأنفاق بقدر ما قامت بتغيير “القوانين” لملائمة الوضع الجديد والاحتياجات المستجدة للمجتمع، فمنعت الوقوف مثلا في أماكن معينة لمنع الزحام والحفاظ على السيولة المرورية، حددت مواقف سيارات بعينها وساعات معينة للوقوف فيها، حتى تشجع الناس على ارتياد المواصلات العامة، كما حددت اتجاهات معينة للطرق بحيث يصبح بعدها ذهابا فقط أو إيابا فقط، وقال سموه أنه أعجب بالفكر جدا في التعامل مع الصعوبات بمرونة وديناميكية واضحة، وسهولة وابتكارية في إيجد الحلول، وطالب سموه بنهج نفس النهج في التعامل مع المشكلات في البحرين، مؤكدا أننا بالفعل نحتاج لتعديل القوانين والسلوكيات السلبية أكثر من احتياجنا للحلول التقليدية في التعامل مع المشاكل والأزمات.. وقد نال حديث سمو رئيس الوزراء الثناء والاستحسان من الحضور، ولفت الانتباه إلى رؤية سموه الثاقبة والمتجددة في التعامل مع القضية المهمة.

وأخيرا .. من المهم أن ندرك أن الكثير من المعطيات الاقتصادية والسياسات النقدية لدول الخليج قد تغيرت خلال الثلاث سنوات الماضية، والتي دعمها بشكل مباشر محاولة تلك الدول تدارك الفرص المهدرة والتفكير خارج إطار النفط، مع تراجع سعر الخام دون 50 دولاراً للبرميل، ورغباتها بتنويع مصادر الدخل العام ومواصلة عجلة التنمية والبناء.

لا شك أن ضريبة القيمة المضافة سيكون لها أثر إيجابي بإدارة عجز الموازنات والديون خلال الدورة ‏الاقتصادية الحالية، وهو ما سيسمح للحكومات بمواصلة التخطيط الاقتصادي والتنمية على المدى ‏القريب والمتوسط، وسيسهم أيضاً بعلاج التشوهات الاقتصادية التي نجمت عن إهدار الكثير من ‏الفرص الاستثمارية وإشراك المواطنين والمقيمين بخطط التطوير.‏

* رئيس جمعية البحرين لتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى